لماذا يقدم أي إنسان على وضع حد لحياته عن طريق شنق نفسه؟ سؤال جوهري اجتهد علماء النفس والاجتماع وغيرهم الإجابة عليه.
من المتعارف عليه والمجمع عليه بين جميع العلماء والباحثين، أن أي إنسان لا يقدم على الانتحار بشنق نفسه أو بغير ذلك، إلا إذا وصل إلى نتيجة أن الموت أفضل له من الحياة الراهنة التي يعيشها، فالضحية هنا لا يستطيع احتمال الظروف التي يحياها، ولا يجد مخرجاً من المعاناة التي يعيشها إلا بقتل نفسه، شنقاً أو بغيره.
اعتبرت وفاة الشاب الفلسطيني محمد الحاج أحد عناصر حركة حماس في منطقة جنين، في سجون السلطة الفلسطينية، مثاراً جديداً للجدل بين حركتي فتح وحماس، ووجد هذا الجدل مسرحاً له في الإعلام وساحات الحقوق المدنية للمواطن الفلسطيني، وما صعّد هذا الجدل هو رواية الجهاز الذي توفي عضو حماس بعهدته: (بأن المعتقل شنق نفسه)، وهو ما نفته عائلة الشاب قائلة بأنهم شاهدوا جسده وهو مليء بآثار التعذيب، وطالبت مؤسسات حقوق الإنسان وغيرها من أطراف محايدة أن تحقق في الموضوع، وتحاسب القتلة.
وقالت العائلة بأن ابنها الشهيد قد اعتقل لدى أجهزة أمن السلطة عدة مرات قبل هذه المرة، وتعرض خلالها للتعذيب الشديد. وأكد أخوه أن ادعاء السلطة في رام الله مجانب للصواب، وضرب مثلاً بقصة الشيخ الشهيد مجد البرغوثي الذي قتل في أحد سجون السلطة في رام الله، وقال وقتها النائب في المجلس التشريعي مصطفى البرغوثي أنه شاهد آثار التعذيب بعينيه على جسد مجد البرغوثي.
في العشرين من كانون ثاني من العام الماضي، وبعد مغادرتي للعمل خرجت مسيرة تضامنية مع غزة، وكان وقتها الاحتلال قطع الكهرباء عن غزة بشكل كامل، وراجت أخبار أن الأطفال في الحاضنات والمرضى الذين يغسلون الكلى سيموتون جراء هذا القطع للتيار الكهربائي، فوقفت جانباً أتابع ما يجري في المسيرة، وكانت الهتافات كلها تهتف بالحياة لغزة والدعوة للوحدة الوطنية، فانضممت للمسيرة، وقلت في نفسي الظاهر أن الأمور تسير نحو الانفراج الداخلي، وكان قبلها أبو مازن اتصل بالزهار معزياً بشهادة ولده، واستضافت فضائية الأقصى جبريل الرجوب وغيره من قادة فتح، فقررت الاتصال بفضائية الأقصى لأخبرهم أن مسيرة وحدة وطنية تسير في رام الله تهتف بحياة المحاصرين في غزة، من باب(زيادة الحلو حلاة) كما يقول المثل.
اتصلت بالاستعلامات وطلبت منهم هاتف الفضائية، وأعطوني إياه، واتصلت بالفضائية وأخبرتهم بمسيرة الوحدة، فطلب مني السنترال أن أعطيه رقمي، وأن يتصل هو بي، وأن أفتح الجهاز على هتافات الوحدة في المسيرة، فعلت ما طلب مني، وكان يقف بجانبي شخص عرفت فيما بعد أنه مخبر، سألني مع من تحدثت فقلت له مع فضائية الأقصى، فأخذ يهتف مع مجموعة من الأشخاص بالقرب من الهاتف، وفجأة شتم أحدهم السلطة، فأغلقت الهاتف وغادرت المسيرة.
لحق بي عنصران أمنيان، صادرا هاتفي وبطاقتي الشخصية واعتقلاني برفقة خمسة عشر شخصاً من المشاركين في المسيرة، في الطريق شتمني أحدهم وحاول ضربي، وعندما وصلنا إلى مقرهم الأمني أدخلوني على عجل للاستجواب، فقال لي أحدهم أنت مراسل فضائية الأقصى؟ ومسؤول في التنفيذية؟ وعبأت استمارات لأعضاء فيها؟ وأهاليهم أخبرونا بذلك، وأنت مسؤول في حماس؟ ومسؤول في الانتخابات التشريعية؟!.
ابتسمت وقلت له هذا الكلام غير صحيح، وكل ما جرى معي هو الآتي، وأخبرته تفاصيل ما جرى في المسيرة، وقلت له الهاتف معك، كيف سأكون مراسلاً للفضائية وأنا لا أعرف رقمها؟وأطلبه من الاستعلامات؟! أما بخصوص حماس، فأنا لست عضواً فيها وتركت العمل بحماس منذ خمسة عشر عاماً، ومنذ ذلك التاريخ أريدك أن تأتيني بملف تحقيق واحد مع أي عنصر من حماس عندكم أو عند الإسرائيليين يقول أن لي علاقات تنظيمية مع هذه الحركة.
أرسلني إلى الشبح وأخذوا يُعرفون عليّ بوصفي ( مراسل فضائية الأقصى)؟! فجأة جاءني اثنان من المحققين ومعهما جندي، شتمني أحدهم، ونعتني بالكلب، ثم انهالوا عليّ ضرباً،: أُضرب حتى أقع على الأرض، ثم أُضرب حتى أنهض، وخلال الضرب كان الجندي يركز ضربه على ظهري، وفجأة ركلني أسفل بطني، وبدأت أصرخ بشدة، وأحدهم يقول صوتك يا كلب، ثم أعادوني للشبح، وبعد فترة سقطت مغشياً علي ولم أعلم ماذا جرى بعدها، حتى صحوت والجندي نفسه يركلني على وجهي وهو يقول:- ( بتفلّم علينا)؟!
أرسلوني إلى غرفة مع معتقلين آخرين، والذين اعتنوا بي لأنني لم أكن أقدر على تحريك قدمي اليسرى، بعد يوم ساءت حالتي الصحية، وبدأت أبول دماً على أثر الركل أسفل بطني. وبدأ ظهري يؤلمني ألماً شديداً، وبدأت أحس بخدر في أطرافي ثم لم أعد أحس بشكل جزئي، وبدأت أصرخ من شدة الألم، فنقلوني في سيارة إلى الخدمات الطبية العسكرية، وعند إدخالي إلى هناك، سألهم الطبيب( عسكري وللا سجين؟) فقالوا له:-( سجين من حماس) فسألني:- (مالك) فقلت له ضربوني على ظهري وأسفل بطني ولا أحس بأطرافي وأشعر بألم شديد في ظهري، وأتبول دماً نتيجة الضرب.
فأخذ يرفع رجلي ويدي ويضربهما بشدة في سرير العلاج!، ويرفعني بعنف!، ويكشف عن جسدي، ويقول:-( أنت كذاب!، أنت معك شلل نصفي، أنت كذاب بدك تروّح، أقلّهم يروحوك؟) فقلت له:-( يا أخي ما حدا ضربني، أنا زحلقت في الحمام، بس عالجني من شان الله) وبعدها جاء الدكتور وأعطاني حقنة، ثم قال لهم هذا كذاب وهو معه تضخم في البروستات قبل اعتقاله وهذا سبب تبوله للدم، وليس بسبب الضرب والتعذيب؟! وتابع موجهاً كلامه لهم: وأنا سأعطيكم تقريراً يخلي مسؤوليتكم، وهو بحاجة لأسبوعين حتى يشفى، ففهمت حينها أنني سأبقى في الاعتقال لأسبوعين آخرين، حتى تخف آثار التعذيب.
بعدها لم يلمسني أحد، حيث توقف التحقيق معي، ولكن بدأ فصل آخر من المعاناة نتيجة لسماع صراخ المعتقلين، وخاصة أحدهم وهو من منطقة قلقيلية كان يصرخ من شدة الضرب، حتى أنني قلت للمحققين، يا أخي أنا مسامحكم، ولكن ما تفعلونه مع هذا الشاب يؤسس لأحقاد لا تنتهي، وأخبرتهم أن زميلي في الزنزانة قد أصيب بحالة من الرعب الشديد وبالأخص كلما سمع صرخات المعتقلين أو صراخ المحققين، وكان يتوسل إليّ أن أظل مستيقظاً إلى جانبه.
خلال وجودي في السجن حاول الكثيرون من الأقارب والأصدقاء التوسط لإخراجي، وكان العديد من الوسطاء يعودون، إما بتهديد لهم بعدم التدخل، أو يعودون بالقول أنني قسام أو تنفيذية، وأنني سلمت أجهزة أمن السلطة مخزن أسلحة وبذلات عسكرية للقوة التنفيذية؟! حتى أن أبي بدأ يسأل عن إمكانية وضع محامٍ لي، واتصلت زوجتي بأحد أصدقاء أهلها( وهو مسؤول أمني)، وعندما حدثته بما جرى لي، قال لها:( كيف بتتزوجي واحد حماس)؟!.
خرجت من السجن الذي لا يبعد إلا أمتاراً عن بيت الرئيس الفلسطيني، ولكن للأسف كم تألمت، لأنه بعد خروجي من السجن بأسبوع سمعت عن نبأ وفاة المعتقل مجد البرغوثي، وتألمت أكثر لأنني رأيت أن نصيحتي لم يأخذها أحد بالاعتبار.
ما عشته بنفسي وما رأيته وسمعته أثناء اعتقالي في سجون السلطة أعطاني تصوراً عمّا يتم مع المعتقلين هناك، ولكنني لمست ثأرية مستديمة لدى المحققين، ورغبة في الانتقام من كل ما يمت لحماس بصلة، وقد سجنت سابقاً لدى الاحتلال، وبالرغم من العداء المستأصل في نفوس محققي الاحتلال، فقد كانوا يحرصون على التعامل بمهنية مع المعتقلين، حتى يأخذوا المعلومة ولا شيء غيرها، ويؤسفني بل يؤلمني أن أقوم بمقارنة بين المحتلين وبين أبناء شعبي.
وعودة إلى الشنق والانتحار، فأنا هنا لا أريد أن أنفي أو أؤكد رواية سجاني الشهيد محمد الحاج، فهذا أمر يحسمه لجنة محايدة، تأخذ حقها ووقتها في التحقيق، لتصل إلى الحقيقة، بل إن كاتباً مقرباً من حركة فتح وصف رواية السلطة بأنها ( رخوة)؟! وفي رأيي أن هذه الرواية تعزز الاتهام ولا تنفيه؛ ولو أن هذا الشاب أقدم على شنق نفسه( كما يقولون)، فهذا عائد بالضرورة إلى تعرضه للتعذيب والجلد والفلقات، والشبح والتعليق وسائر الظروف الاعتقالية التي عايشتها أو سمعت عنها من العشرات.
وأذكر أنه أدخل الزنزانة عندي، شاب يبلغ من العمر سبعة عشر عاماً، وكان يبكي فسألته عن السبب، فقال لي:( إنه اعترف كذباً تحت التعذيب على صديق له بأن عنده قطعة سلاح، وبعدما تعرض صديقه هذا للتعذيب والضرب الشديدين، وتأكد المحققون عدم صحة هذا الاعتراف وعدم وجود أي سلاح، قالوا للشاب إنهم سيحاكمونه بتهمة تضليل العدالة؟!!).
راجعت حينها أحد المحققين وقلت له، أنتم تضربون المعتقل من قلقيلية ليعترف على خمسة أشخاص أنهم من حماس ويعملون معه، فماذا لو كان ما تقول إنها معلومات مؤكدة غير مؤكدة، ومات الشاب بين يديك وهو لم يفعل شيئاً؟ وهذا الدليل الشاب الصغير الذي اعترف على صديقه بأن عنده سلاحاً وهو لا يوجد عنده؟! فقال لي:-( هذا الولد اعترف على صاحبه بجلسة ودية وكان يشرب الكولا ويأكل البسكوت)؟!، ثم شتمه شتيمة نابية، ووجه كلامه إلي قائلاً: لا تتدخل في غيرك.
بالرغم من أنني قدمت شكوى لمؤسسة حقوقية، بعد الاعتقال، إلا أنني لم أفكر بالكتابة حول هذا الموضوع، ولكن مثلما دفعني استشهاد مجد البرغوثي للشكوى لتلك المؤسسة الحقوقية، أملاً في أن تكون حافزاً للتضييق على تلك الممارسات بحق المعتقلين، فقد حركني مقتل محمد الحاج لكتابة هذا المقال، عل وعسى يكون هو آخر الضحايا.
Windows Live™: Keep your life in sync. Check it out.
__._,_.___
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق