لم اعهد على نفسي شغف الكتابة ولا رغبة جامحة في الثناء لا في الحديث ولا في الكتابة كما شعرت اليوم، في زحمة الالام والاوجاع كنت قد آليت على نفسي ان اصمت ولا اتعرض لاحد بالتجريح و كنت ايضا مرغما ان لا اثني على احد فالراقصون على جراحنا كثر.
اثناء عملي في مشاريع الدعم الطارئ ابان الانتفاضة الانتفاضة الثانية وحتى في اللجنة الشعبية لمواجهة الحصار شاهدت آلام وجراح يقف الانسان عاجزا أمامها لكني كنت اجد تفسيرات عدة تجعل مني على ثقة بان الطريق الى النور قريب، عايشت مع الام الناس رجال منهم من رحل ومنهم من بقي على الدرب ينال منه الصغار، وكما عايشت الرجال شاهدت نماذج يأنف عقلي عن تذكرها ولو للحظات عابرة، تسيدت تلك الشخصيات المشهد الفلسطيني داخل الوطن وخارجه ولم تأبه لا بالالم ولا بكرامة الانسان الفلسطيني.
اتحدث اليوم عن نموذج اثار في الكثير من المشاعر مزجت الفرح والاسى والامل، كنت قد غادرت قطاع غزة بحمد الله قبل اربعة أشهر لاكمل دراستي الجامعية لنيل درجة الدكتوراة في بريطانيا بعد اشهر طويلة من الانتظار حتى يفتح معبر الحياة، غداة وصولي الى لندن ألقيت كلمة في البرلمان البريطاني شارحا معاناة اهلنا في قطاع غزة جراء الحصار الجائر، شاء الله ان يسبقني في الحديث البروفسور مانويل حساسيان سفيرنا نعم سفيرنا في الممكلة المتحدة. ما ان تقدم البروفسور مانويل لالقاء كلمته حتى شعرت بالخوف وقلت في نفسي الان ستتوه الكلمات من سفيرنا كما تتيه من سفرائنا الموزعين في اصقاع الارض، سيضرب سفيرنا ببعضنا يمينا وشمالا، وسيتحدث بصوت المتوسل والخجول عن حقوقنا، وسيتباكى على السلم ورغبتنا في نيل حقوقنا عبر خيارنا الاوحد خيار السلام ولا خيار عنه بديلا.
كنت اسمع عن البروفسور منويل اثناء رئاسته لجامعة بيت لحم حيث كنت اتابع مشروعا مقدما من البنك الدولي لدعم الجامعات الفلسطينية، كانت جامعة بيت لحم في الضفة والجامعة الاسلامية في غزة اشد الجامعات شفافية والتزاما بشروط المنحة، آن ذاك علمت ان من يقود المسيرة هناك رجل متميز، كان يتابع الصغيرة والكبيرة ولا يتواني عن الاتصال وبشكل شخصي من اجل التأكد من أن المنحة تصرف على الوجه المطلوب.
نعود لسفيرنا الذي اعتلى المنصة واخذ يتحدث بكلمات انهمرت منها الدموع، انه يتحدث عن الم غزة ويقول ان الاحتلال المجرم الاول والاوحد، انه يقول ان من العار ان نصمت، انه يقول انكم شركاء في الجريمة، انه يصرخ بألم، نال الدكتور مانويل التصفيق والاعجاب ووقفت بلا شعور وانا على المنصة اصفق فرحا، آه آه اخيرا هناك من يمثلنا هناك من يشعر بآلامنا.
كانت لي الكلمة بعده وتحدثت بما فتح الله علي وما ان انهيت حتى جاءني محتضنا يربت على كتفي ويقول رفعت راسنا ويسال عني وعن ظروف دراستي ويعطيني عناوينه بلا تردد ويقول نحن هنا لخدمتك لا تتردد في الاتصال بي في اي وقت.
عدت فرحا لكن سرعان ما عدت الى عقلي ورشدي، انه كغيره ممن يتوزعون في في شتى البقاع، فقد جربناهم مرارا في الدول العربية والاوربية سيلقون بك الى السكرتيرة في احسن الاحوال ويقولون لك راجعنا لاحقا "وابقى قابلني"، ربما ما دفعه للحديث بهذه الطريقة والتعامل معي هي حماسة الخطابة والموقف.
لاحقا ذهبت الى لندن للمشاركة في مسيرة للتنديد بالعدوان الوحشي على غزة، انبرى الرجل وكانت اللهجة اكثر حدة واكثر غضبا.
تركت خلفي في غزة زوجتي واطفالي وما ان وصلت الى بريطانيا حتى سارعت في انجاز الاجراءات وحصلت على الفيز اللازمة لسفرهم، ومنذ شهر اكتوبر حتى يوم كتابة هذا المقال لم استطع اخراجهم، قلت هم كغيرهم من الناس فليعيشو القصف والمعاناة والألم، ولأعيش معهم لحظات الخوف والقلق حد الجنون، فالمحتل الارهابي لا يفرق بين الصغير والكبير بين المدني والمقاوم بين المراة والرجل.
ما ان حطت الحرب على غزة اوزارها حتى عادت أنظاري الى حيث معبر رفح ارقب اي خبر اي حديث علي استطيع ان اجمع شمل عائلتي، زاد حنقي حين علمت ان هناك البعض ممن يستطيع التنسيق عبر سفارتنا في القاهرة يتمكن من مغادرة المعبر، فهذه زوجة فلان وهذا قريبه الوزير في رام الله.
عزمت عندها ان ارسل زوجتي واطفالي الى المعبر، على جانب المعبر من غزة قالوا لزوجتي نحن لا نمانع سفر احد وبالفعل سمحو لزوجتي ان تمر في اليوم الاول الا انهم اعادوها، وسمحوا لها في اليوم الثاني واعادوها وسمحوا لها في اليوم الثالث.
روت زوجتي اثناء تواصلي معها هاتفيا مشاهد الايام الثلاثة بمساويتها فالجرحى ينزفون والاشقاء المصريين منعو الجرحى من المرور وقالوا ان المعبر مغلق بسبب الخوف من قصف اسرائيلي، التقت زوجتي بطفلة مريضة وثَقتها بالصورة تموت اما البوابة السوداء مكثت طوال اليوم واعادها الاشقاء للاسف لا تنسيق لها وعدد من دخل من الجرحى اليوم كاف.
كدت اجن لا ادري ما افعل، فجاة وانا اقلب ذاكرتي ظهر امامي سفيرنا صاحب الكلمات الصادقة، ترددت في الاتصال، اتصلت بالسفارة، السكرتيرة مشغولة بالتلفون، ارجو العودة لمكالمتها بعد عشر دقائق، انها بداية غير مبشرة. اتصلت برقم البرفسور منويل فاذا بزوجته تجيب على الاتصال وتكيل لي كلمات التضامن مع غزة وجرحها، وتقول لي ها هو الدكتور مانويل قادم، رحب في البرفسور بطريقة اخجلتني شرحت له ان زوجتي تتعرض كما يتعرض غيرها من ابناء شعبنا للاهانة ولا تستطيع الدخول الى مصر او المرور للمطار، وان الحل الوحيد يكمن في ان يقول ممثل سفارتنا في المعبر آه دخلوها!!!!!، لحظات وكأن الكون أمامي تغير، حاول البرفسور منويل مرارا وتكرارا الاتصال على سفارتنا في القاهرة ولا مجيب، عاد واتصل مع السفارة البريطانية في القاهرة، وتركوه ينتظر مرارا على الهاتف دون ان يمل، كرر الاتصال فقيل له ان السفير ونائبه في اجتماع.
مرت ساعة ساعتين وهو يتصل ولا يكل ولا يمل، ومع كل خطوة يعود لطمأنتي وتتصل زوجته لتقول الدكتور مانويل يسعى الان أما انا فارجوك قل لي ما يمكن ان افعله لاخفف عن زوجتك.
في ساعات النهار الاخيرة بلغ الغضب من البروفسور منويل مبلغه فاتصل برام الله بوزارة الخارجية وطلب عناوين الاتصال بسفارتنا وحصل على احد الارقام الخاصة، فارقام سفارتنا للاسف ليست للعامة.
اتصل الدكتور مانويل بالسفارة وما هي الا لحظات حتى شعرت زوجتي ان هناك لون جديد من المعاملة، فالصراخ على اطفالي انتهى ومحاولات طردها لم تعد قائمة، وأخيرا تذكر ممثلنا في السفارة ان هناك مواطنة مهمته تقديم الخدمة لها. لحظات حتى ختمت جوازات السفر ومرت زوجتي بسلام.
هنا كان الالم والامل، كان الالم ناتجاً من اولئك الذين سمحوا للاختلاف ان يكون مبررا لاهانة ابناء شق الوطن الاخر، كان الالم ممن تسيدو وسادو وعنا غابو.
لكن الامل باق بقوة فنموذج الدكتور منويل جعلني اؤمن ان كل محاولات الفصل وكل محاولات المتاجرة بقضيتنا وبشعبنا ستبوء بالفشل الذريع، لان هناك خدم لنا عرفوا واجباتهم وعرفوا معني ان تتسيد في الوطن لا على الوطن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق